في البعد الديني للمسألة الفلسطينية‏ -‏ مدخل ثقافي

أنور الهواري

مجلة السياسة الدولية يوليو 2002 - العدد رقم 149

البعد الديني في المسألة الفلسطينية ليس جديدا‏,‏ فقد ولد وظهر مع ميلادها وظهورها‏.‏ وتاريخيا تجسد البعد الديني في عدة مفاهيم رئيسية شكلت‏-‏ بدورها‏-‏ جانبا من الأسس الصلبة والثابتة لطبيعة الصراع ومشروعيته علي الجانبين‏:‏ الإسرائيلي والعربي‏.‏

أول هذه المفاهيم‏:‏ هو فكرة الوعد الإلهي - ‏Biblical Promise‏ - عند اليهود كأساس لشرعية العودة وإمتلاك الأرض المقدسة‏,‏ يقابلها فكرة القداسة الدينية لهذه الأرض عند المسلمين علي أساس أن المسجد الأقصي الشريف هو أول قبلة توجه إليها المسلمون‏,‏ وثالث حرم بعد الكعبة في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة‏.‏

وثاني هذه المفاهيم‏:‏ هو أن هذا الأساس الديني للصراع‏,‏ لم يكن مجرد استدعاء لنصوص دينية موروثة‏,‏ وإنما هو تدوير لهذه النصوص في ماكينة الصراع وتحويلها وقودا يغذي آليات الصراع في الدعاية والسياسة والتفاوض والسلم والحرب‏.‏

وثالث هذه المفاهيم‏:‏ إن المعيار الحاكم لفاعلية النص الديني ودوره في الصراع‏,‏ لا ينبني علي ما ينطوي عليه هذا النص من صواب ويقين‏,‏ ولا ينبني علي تقدير عقلي لما قد ينطوي عليه من حقيقة أو مجاز رمزي‏.‏ وإنما كان المعيار الحاكم لفاعلية النص الديني‏-‏ مهما كان قديما ومهما كان هشا مثلما في الحالة الإسرائيلية‏-‏ هو حداثية الماكينات الحركية التي يتم عن طريقها تدوير النص في إدارة الصراع‏.‏ إذ المؤكد أن الجانب الإسرائيلي يمتاز بكفاءة عالية في توظيف المنجزات العصرية لتحمل روح النص التوراتي وتبثها في مفاصل الفكر والفعل والقرار الدولي‏.‏ حتي سهل علي تلك المفاصل التي تنتمي للحداثة أن تملأ أحشاءها بأطنان من الخرافات التوراتية والأساطير التلمودية دون أن تتلوي منها الأمعاء أو تتوعك منها العقول‏.‏

ورابع هذه المفاهيم‏:‏ أن مجموعة المقولات الدينية الرئيسية الي تشكل صلب الرؤية الدينية للصراع علي الجانب العربي الإسلامي‏,‏ قد بقيت‏-‏ من جهة أولي‏-‏ أسيرة صياغات قديمة من الناحية النظرية‏.‏ وبقيت‏-‏ من جهة ثانية‏-‏ محملة بأوشاج وقائع وتطورات تاريخية دارسة لم تستطع تجاوزها والتجرد عنها‏.‏ وبقيت‏-‏ من جهة ثالثة‏-‏ أسيرة التوظيف الدعائي المؤقت والمتقطع والموجه للاستهلاك المحلي الذي يهدف إلي التسكين والتخدير كغاية نهائية‏.‏ ومن جهة أخيره فإن هذه المقولات بقيت أطلالا موصولة النسب بمنظومات عقلية وروحية وثقافية وسياسية واجتماعية قد عفي عليها الزمن من عدة قرون خلت‏.‏ ولم يحدث أن تم بذل مجهود لإعادة تسكين هذه المقولات وتضفيرها في منظومات بديلة وحديثة تمثل ماكينات من شأنها إعادة تدوير تلك المقولات‏-‏ بفاعلية وإيجابية‏-‏ في منظومات حديثة متحركة وفاعلة‏.‏

وخامس هذه المفاهيم‏:‏ أنه علي الجانب الإسرائيلي بدرجة محدودة‏,‏ وعلي الجانب العربي الإسلامي بدرجة أكبر‏,‏ حدثت ووقعت حالة من التوازي التي تحول دون اللقاء بين المقولات الدينية والمنظومات المؤسساتية‏.‏ حدثت علي الجانب الإسرائيلي بدرجة أقل لأن بيئة العلاقات الدولية وخاصة في مراكزها الغربية المهيمنة تبدي تسامحا يجعل من اليهودية ديانة مدللة وديانة فوق الأديان‏.‏ وحدثت علي الجانب العربي الإسلامي بدرجة أكبر لأن العملية التاريخية لإعادة بناء هذه الدول وفق النموذج الأوروبي الحديث تمت في وقت شهد جمودا فكريا قاتلا في صلب الثقافة الموروثه‏,‏ فنشأت المنظومات المؤسساتيه الحديثة مدفوعة بخلفيات ثقافية وفكرية مختلفة‏.‏ فهناك شيء اسمه‏'‏ الجهاد‏'‏ هو أقرب إلي فضاء نظري سائب‏,‏ وهناك شيء مواز اسمه‏'‏ الأمن القومي‏'‏ وهو مؤطر في مؤسسات ومنظمات وأساليب وأدوات‏.‏ يتعايشان متوازيان‏,‏ وربما في لحظات فاصله يلتقيان‏,‏ ولكن علي أن يبقي الأول في موقعه لا يبرحه إلا ليؤدي دورا روحيا أو نفسيا أو تحريضيا حسبما يستدعيه السياق‏.‏ هذا التوازي‏,‏ يخلق إزدواجية‏,‏ قد تبقي كامنة‏,‏ ولكنها في أوقات الأزمات‏,‏ تكسر طوق الكمون‏,‏ وتطلق فيضا من الإشكاليات التي تهدد بنيان المنظومة الاجتماعية في أطرها المؤسسية‏,‏ وفي روحياتها الاجتماعية‏

منقووول للفائدة .
AlexaLaw