إيران‏:‏ معضلة التعايش بين نظرية ولاية الفقية والديمقراطية

د‏.‏ طلال صالح بنان

مجلة السياسة الدولة يناير 2004 - العدد رقم 155

تعيش إيران هذه الأيام مرحلة مخاض سياسي كبير‏..‏ وتفاعلات سياسية داخلية عميقة تطال حركة الدولة والمجتمع ومستقبل نظام القيم الذي أتت به الثورة الإسلامية في إيران وحكمت بموجبه البلاد طوال ما يقرب من ربع قرن‏.

وهذه التحولات التي تتفاعل في حركة لصراع سياسي بين ما يسمي بالإصلاحيين والمحافظين‏,‏ تعكس التحدي الكبير الذي تواجه إيران في محاولة التحول صوب الديمقراطية‏,‏ حيث مثلت نظرية ولاية الفقية كأطروحة بنيوية في الفكر الإسلامي الشيعي إحدي القضايا الهامة في الجدل حول التجربة السياسية الإيرانية‏,‏ بما أثارته من إشكاليات برزت منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران‏,‏ حيث ظهرت المعارضة لولاية الفقية كأساس أيديولوجي لعقيدة نظام الثورة الإسلامية‏,‏ ومن أبرز أنصار هذا الاتجاه المعارض آية الله شريعة مداري الذي فرضت عليه الإقامة الجبرية بمنزله حتي وفاته‏1986.‏

إلا أن الإمام الخميني بما كان يتمتع به من زعامة سياسية وروحية كاريزمائية أستطاع أن يجهز علي معارضي نظريته ولاية الفقية وساعده خلالها مجالات النقاش والجدل حول نظرية ولاية الفقيه وساعده في ذلك الحرب مع العراق التي استمرت ثماني سنوات‏,‏ تراجعت خلالها مجالات النقاش والجدل حول نظرية ولاية الفقية حتي وفاته‏,‏ ليعود هذا الجدل إلي الساحة من جديد مع تولي آية الله علي خامنئي السلطة ويتولد صراع سياسي داخل مؤسسات الحكم في إيران‏,‏ وبدأ في الظهور اتجاه لم يكن معارضا فقط للحد من صلاحيات الإمام الدستورية والدعوة لانتخابه إسوة برئيس الجمهورية بل طالب بتعديل نظرية ولاية الفقية نفسها والتي أراد نظام الثورة أن تشكل أيديولوجية متماسكة ومتكاملة لممارسة الإسلام السياسي‏.‏

وفي إطار ذلك‏,‏ شهدت الساحة السياسية الإيرانية جدلا واسع النطاب بين أنصار التيار المعارض لنظرية ولاية الفقية‏,‏ والتيار المحافظ الذي يسانده الإمام‏,‏ واستعت مطالب تيار الإصلاحيين‏,‏ فلم تقتصر فقط علي ولاية الفقية‏,‏ بل طالبوا بالإصلاح وبالمزيد من الحريات والاقتراب من عقلانية الدولة والبعد عن منطق الثورة‏,‏ ومن أبرز أنصار هذا التيار آية الله حسين منتظري‏,‏ عبدالله نوري وزير الداخلية‏,‏ هاشم أغاجاري الذي حكم عليه بالإعدام في أواخر‏2000‏ بعد مطالبته بإصلاح المؤسسة الدينية‏,‏ وتم إلغاء حكم الإعدام في فبراير‏2003‏ من جانب الإمام آية الله علي خامنئي تحت ضغط المعارضة والمظاهرات التي طالبت بالإفراج عن زعماء التيار الإصلاحي وإلغاء الأحكام الصادرة ضدهم‏.‏

وبذلك مثلت قضية ولاية الفقية قمة جبل الجليد الذي يخفي تحته خلافات سياسية جذرية بين التيارين المحافظ والإصلاحي حول قضايا سياسية مهمة تتعلق بهوية النظام السياسي الإيراني ومكانة المؤسسة الدينية في أسس شرعيته وحركة مؤسساته ونظام القيم العام الذي يحكم سلوك وأخلاقيات أفراد الشعب‏,‏ ومدي كفاءة نظام الثورة الإسلامية في إيان في التجاوب مع مطالب البيئتين الداخلية والخارجية وتوقعات أفراد الشعب لمزيد من التنمية والحرية‏,‏ كل ذلك لا يمكن فصله عن الايديولوجية السياسية لنظرية ولاية الفقية ومدي جدارتها السياسية في تمثيل الأساس الشرعي لدولة عصرية في إيران تستطيع أن تتعامل بكفاءة وفاعلية مع متطلبات التطور العصري نحو مزيد من الديمقراطية والحرية والمشاركة السياسية لكافة فئات المجتمع الإيراني وطوائفه‏.‏

وقد برز إلي المواقع ثلاث تيارات أساسية تتجاذب فيما بينها قضية شرعية النظام التي تمثلها نظرية ولاية الفقية ومتطلبات التحول نحو نظام أكثر عصرية وفاعلية وكفاءة في تحقيق الغاية من حركته في مواجهة ضغوط البيئتين الداخلية والخارجية صوب الإصلاح والاقتراب أكثر نحو قيم الممارسة الديمقراطية‏,‏ وهذه التيارات هي‏:‏

‏-‏ تيار براجماتي‏-‏ إصلاح‏,‏ يركز علي عقلانية الدولية بعيدا عن منطق الثورة ولا ينظر لشرعية النظام من منظور ايديولوجي ضيق كما تفرضه نظرية ولاية الفقية‏,‏ بل ينادي بقيم أكثر عصرية لتحديد شرعية النظام بربطها بإرادة الشعب‏.‏

‏-‏ تيار راديكالي‏,‏ يتمسك بقوة بنظرية ولاية الفقية كأساس لشرعية النظام ويعارض كل توجه من شأنه تقليص سيطرة النخبة الدينية علي مؤسسات النظام‏,‏ ويعتمد علي دعم رجال الدين المتشددين المدعومين من قوي تمتلك أدوات القسر والعنف في النظام مثل الحرب الجمهوري وقوات الأمن‏,‏ ويعارض التقارب مع الغرب‏,‏ ولازال يتمسك بمبدأ تصدير الثورة‏.‏

‏-‏ تيار محافظ‏,‏ يتخذ موقفا وسطا بين الاتجاهين‏,‏ وإن كان يميل إلي التيار الراديكالي فيما يخص شرعية النظام المرتبطة بولاية الفقية‏,‏ علي الجانب الآخر يتجاوب مع مطالب البيئة الداخلية خاصة فيما يتعلق بالنظام الاقتصادي‏,‏ وإن كان لا يتحمس لمطالب الحريات السياسية خاصة تلك التي تقود إلي كسر احتكار النخبة الحاكمة الدينية للسلطة‏,‏ ويؤيد هذا التيار البازار التقليدي والطبقة الوسطي‏.‏

وقد أثبتت تجربة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران‏,‏ أن ولاية الفقية لا تعكس شرعية النظام الحقيقية‏,‏ كما أنها عاجزة عن جعل النظام أكثر فاعلية وكفاءة في أداء وظائفه أو الاستجابة لتوقعات الجماهير من حركته‏,‏ فلم تعد ولاية الفقية نظرية تؤسس لشرعية النظام السياسي‏,‏ بقدر ما أصبحت أداة لإدارة حركة الصراع من قبل الراديكاليين والمحافظين للإبقاء علي نفوذهم السياسي في مواجهة تهديد حقيقي لمصالحهم يمثله التيار الإصلاحي‏,‏ وأنه إذا حدث انفتاح فعلي من قبل نظام الثورة الإسلامية علي واقع التعددية السياسية في المجتمع الإيراني‏,‏ فإن النظام السياسي الإيراني سيتجه إلي المزيد من الديمقراطية علي حساب مصالح النخبة الدينية الحاكمة ومعها كل مظاهر الشرعية التي تفرضها قسرا نظرية ولاية الفقية‏,‏ خاصة وأن هناك ميلا متزايدا من الشارع الإيراني تجاه التيار البراجماتي الإصلاحي علي حساب التيارين الآخرين خاصة التيار المحافظ الذي يعتبر المنافس الرئيسي للتيار الإصلاحي‏.‏

منقووول للفائدة .
AlexaLaw