أم المهــــــازل‏..!‏

د‏.‏ أسامة الغزالي حرب

مجلة السياسة الدولة يناير 2004 - العدد رقم 155

أن يختبيء قائد كان نموذجا للقسوة والصلافة والعجرفة‏,‏ مولعا بالأبهة والفخامة‏,‏ في حفرة ضيقة‏-‏ مذكرا إيانا بالقصة الشهيرة لإختباء لصوص بغداد في القدور‏-‏ ثم يسلم هذا القائد نفسه بتلك الطريقة المذلة والمهينة‏..,‏ مهزلة قل أن يتكرر مثلها في التاريخ‏!‏ ولكني أعتقد أن‏'‏ أم المهازل‏'-‏ وأنا أستعير هنا التركيب اللغوي الشهير لصدام حسين‏-‏ هو أن نفشل نحن العرب والمسلمون بعد كل ما حدث‏,‏ في استخلاص الدروس الحقيقية لصعود وسقوط صدام حسين‏.‏

إن صدام حسين تجسيد واضح لشخصية المستبد كما وصفها الكواكبي في كتابه‏'‏ طبائع الاستبداد‏'‏ منذ مائة عام‏.'‏ المستبد في لحظة جلوسه علي عرشه‏..‏ يري نفسه كان إنسانا فصار إلها‏'..'‏ المستبد لا يخرج قط عن أنه خائف خائن محتاج لعصابة تعينه وتحميه‏'.‏ ولابد أن صدام كان يدرك تماما أن مصيره لو وقع في أيدي العراقيين ما كان سيختلف عن مصير حكام عراقيين سابقين‏-‏ أي القتل والسحل‏.‏ وربما في هذه الحالة كان صدام سيفضل الانتحار‏-‏ ليس حفظا لكرامته أو كبريائه‏-‏ وإنما خوفا من التعذيب والقتل الوحشي‏.‏ والأرجح أن صدام حسين استسلم علي ذلك النحو المهين لأنه كان متيقنا أن الذين سيقبضون عليه‏,‏ ويحتفظون به‏,‏ هم الأمريكيون‏.‏ ولا أستبعد شخصيا‏,‏ إتساقا مع هذا التحليل لشخصية المستبد‏,‏ أن يتعاون صدام إلي أقصي حد مع المحققين الأمريكيين‏,‏ وأن يسعي لإقناعهم أن نمط حكمه وسياساته الخارجية كانا الأنسب للشخصية العراقية وللطموحات العربية‏.‏ فوحشية صدام إزاء أهله ومواطنيه لم يضاهيها إلا تراجعه وتخاذله أمام الأجانب والقوي الخارجية‏-‏ بصرف النظر عن الشعارات الزاعقة والكاذبة لآلات دعائيته الجبارة‏.‏ ويتسق مع هذا الفهم لشخصية صدام أيضا تكبره عن الأخذ بأي نصيحة من القادة العرب‏.‏ ولم تسقط من الذاكرة بعد‏,‏ رسائل ومناشدات الرئيس مبارك إليه سواء قبل حرب الكويت أو قبل الغزو الأخير للعراق‏,‏ ولا الاستقبال المهين الذي كان من نصيب المبعوثين العرب الي بغداد في الأزمة الأخيرة‏.‏

استسلام صدام اذا مهزلة مشينة ومذلة‏,‏ ولكنها بالقطع ليست أم المهازل‏.‏ إن أم المهازل هي أن المحنة العراقية بدءا من سقوط بغداد في‏19‏ أبريل حتي القبض علي صدام حسين في مخبئه قرب تكريت في‏14‏ ديسمبر‏,‏ لم تفلح حتي الآن لدي بعض العرب والمسلمين في تبصيرهم بمغزاها الحقيقي‏!‏ ويدلل علي‏'‏ أم المهازل‏'‏ تلك عدد من الأفكار والرؤي‏:‏

‏-‏ هناك تلك الرؤية التي قدرت فيما حدث أساسا‏:‏ إهانة هائلة غير مسبوقة‏-‏ متعمدة ومقصودة‏-‏ للعرب والمسلمين‏!‏ إنها رؤية تنطوي ضمنا علي تصور أن صدام حسين هو رمز ونموذج للعرب والمسلمين‏,‏ بوصفه قائدا‏'‏ شرعيا‏',‏ وأن ما قام به من أفعال كان تعبيرا صادقا عن آمال وأهداف العراق‏,‏ والأمة العربية‏!‏ غير أن الأمر ليس كذلك علي الإطلاق‏!‏ فلم يتمتع صدام أبدا بشرعية حقيقية‏,‏ ثم أن سياساته وقراراته كانت مضادة علي طول الخط للمصالح العراقية والعربية والإسلامية‏!‏ ولذلك فإن القبض عليه‏,‏ ومحاكمته‏,‏ مثل القبض علي أي مجرم‏,‏ دلالة علي التحضر واحترام القانون‏,‏ وليس إهانة أو إذلالا‏!‏

أما ما يجب أن يشعرنا حقيقة بالمهانة‏,‏ فهي الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة في العالم العربي‏,‏ وخاصة العراق‏,‏ والتي سمحت بصعود شخص مثل صدام حسين إلي منصب نائب رئيس الجمهورية في عام‏1968,‏ ثم اغتصابه للرئاسة عام‏1979,‏ من خلال مسار دموي‏-‏ تآمري يندر أن يوجد له مثيل‏.‏ ما يجب أن يشعرنا بالمهانة هو بقاء صدام في السلطة من‏1979‏ الي‏2003,‏ وانفراده باتخاذ سلسلة من القرارات الكارثية التي حولت العراق بقدراته وثرواته الطبيعية والبشرية والمالية‏,‏ الي أكثر الأقطار العربية فقرا وبؤسا وديونا‏-‏ ناهيك عن مئات الآلاف من القتلي والمشردين وملايين المهاجرين‏.‏

ما يجب أن يشعرنا بالمهانة هو تعامل مفكرين ومثقفين عرب‏,‏ يفترض أن يعبروا عن ضمير الأمة وتطلعها الي الحرية والكرامة‏,‏ مع صدام حسين‏,‏ بل وممالأته‏.‏ وأخيرا يجب أن نشعر بالمهانة لأن الأمريكيين والبريطانيين هم الذين أنهوا حكم صدام حسين وقبضوا عليه‏,‏ تحقيقا لأهدافهم‏-‏ بينما كان علينا نحن‏-‏ العرب والعراقيون‏-‏ أن نفعل ذلك دفاعا عن كرامتنا ومصالحنا الحقيقية‏.‏

‏-‏ هناك ثانيا‏-‏ تلك الرؤية التي قدرت فيما حدث‏,‏ أنه مؤامرة كبري حيكت ببراعة ضد صدام حسين‏,‏ والعراق‏,‏ مستهدفة العرب والمسلمين جميعا‏.‏ وتعددت علي نحو مدهش تنويعات وتطبيقات تلك المؤامرة‏,‏ بدءا من خداع صدام حسين وتضليله ليتخذ قراراته الكبري الشهيرة‏,‏ بما في ذلك غزو إيران وغزو الكويت‏,‏ وانتهاء بتخديره في مخبئه تحت الأرض قرب تكريت‏!‏
ويلقي أصحاب هذه الرؤية ذنب كل الخيارات الخاطئة علي عاتق القوي الخارجية‏,‏ المتآمرة والشريرة‏,‏ التي تزين للقادة والمجتمعات العربية والإسلامية الخيارات الخاطئة وتلهيها عن الخطوات الصائبة‏.‏ أما الغرور والجهل والسذاجة التي تجعل تلك القيادات والمجتمعات فريسة سهلة لتلك المؤامرات فهي مسائل ثانوية‏.‏

لا‏,‏ إن الأمر ليس كذلك‏,‏ إن خطط ومؤامرات عالم السياسة ليست كل شيء ولا أهم شيء‏.‏ وليس الاستسلام لها والوقوع في حبائلها قدر لا فكاك منه‏,‏ وإنما هناك بدائل وإمكانات لكشفها وردها الي أصحابها‏.‏ ولكن ذلك يستلزم مجتمعات ونظما وحكومات كفء وشرعية وديمقراطية‏.‏ فإذا كانت مصائب صدام وقراراته الكارثية نتائج مؤامرات حيكت له ووقع في حبائلها‏,‏ فهو عذر أقبح من ذنب‏,‏ ولكنه قبل ذلك عذر غير صحيح وكاذب في معظمه‏.‏

‏-‏ وهناك ثالثا‏-‏ تلك الرؤية التي تري في سقوط نظام صدام حسين مقدمة لحدثين جللين‏:‏ ازدهار المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي‏-‏ البريطاني‏-‏ عراقيا‏,‏ والتحول إلي إزالة نظم أخري‏-‏ عربيا‏!‏ حسنا‏..‏ إن المقاومة ضد الاحتلال أمر منطقي وواجب‏,‏ والتخوف من تكرار السلوك الأمريكي‏-‏ البريطاني‏,‏ المجرد من الشرعية الدولية‏,‏ والمنتشي بالانجاز ضد صدام حسين‏,‏ أمر جائز ومشروع‏,‏ غير أن تلك‏-‏ مرة أخري‏-‏ ليست أهم دلالات ودروس الحدث العراقي‏-‏ الصدامي‏!‏

ولنبدأ بالتوقع الثاني‏!‏ فالتحذير من تكرار النموذج العراقي في بلدان عربية أخري يطمس الفارق بين نظام صدام والنظم الأخري‏,‏ حتي وإن كان هذا الفارق كميا في بعض الحالات‏!‏ غير أن الأهم من ذلك أن ندرك أن الحفاظ علي السيادة والكرامة الوطنية لا يتناقض مع السعي الجاد نحو الإصلاح السياسي والديمقراطي الحقيقي في الأقطار العربية كلها‏,‏ فضلا عن أن الإصلاح ليس قضية أمريكية أو بريطانية‏!‏ ولكنه قضية داخلية أولا وأخيرا‏,‏ ومطلب نخبوي وشعبوي‏,‏ تاريخي ومعاصر‏.‏ وإذا كانت الإطاحة بنظام صدام حسين عنصرا ضاغطا وملهما للإسراع في التطوير الديمقراطي في المنطقة العربية‏,‏ فليس هناك معني للتخويف بأشباح التدخل الأمريكي‏!‏

أما التوقع الآخر‏,‏ حول مستقبل المقاومة العراقية بعد صدام‏,‏ فينطوي في الواقع علي تمنيات تستند في جانب هام منها الي الرفض الفطري المشروع للاحتلال الأجنبي‏,‏ بأكثر مما تستند الي تقدير واقعي للأولويات المطلوبة علي الساحة العراقية حاليا‏.‏
إن الهدف الأول الآن هو إعادة بناء الدولة والمجتمع بما يسمح ببدء عمليات الإعمار الاقتصادي‏,‏ والإصلاح الديمقراطي‏.‏ وإذا كانت الولايات المتحدة قد دمرت‏-‏ في عمليتها التي قادتها في العراق‏-‏ الدولة‏,‏ والنظام السياسي‏,‏ فإن عليها‏-‏ قبل أن تخرج‏-‏ إصلاح ما أفسدته‏,‏ علي الأقل في حده الأدني‏.‏ إن عمليات‏'‏ مقاومة‏'‏ مسلحة ودامية تفلح في اصطياد بعض القوات الأجنبية‏,‏ وكثير من المواطنين العراقيين‏,‏ تعرقل عمليات إعادة البناء والإعمار‏,‏ وتؤدي‏-‏ بالتحديد‏-‏ إلي إطالة أمد الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق‏!‏

إن اتساع الفجوة بين الضيق والرفض العراقي للكثير من تلك العمليات‏,‏ التي هي في أغلبها حتي الآن غير معروفة المصدر‏,‏ وبين تشجيع قوي عربية‏'‏ خارجية‏'‏ لها‏,‏ لن يكون إلا بذرة لانشقاق لا تحمد عقباه بين الشعب العراقي‏,‏ وأشقائه العرب‏!‏
خلاصة الأمر‏,‏ إن واقعة القبض علي صدام حسين كانت مهزلة‏,‏ ولكنها ليست أم المهازل‏.‏ إن أم المهازل بحق ألا نفلح نحن العرب‏-‏ والمسلمون‏-‏ في استخلاص الدرس الحقيقي لما حدث‏,‏ وأن ننشغل تارة بالندب علي المهانة التي تلقيناها‏!‏ وتارة ثانية بالتنقيب عن عنصر المؤامرة فيما جري‏!‏ وألا نفلح علي نحو جاد وحاسم‏,‏ في الاستيعاب الكامل والحقيقي لدرس سيادة الاستبداد والديكتاتورية‏,‏ وافتقاد الحريات والديمقراطية‏!‏

منقووول للفائدة .
AlexaLaw