'‏الحرب العالمية الثالثة دائرة حاليا ضد شعوب العالم الثالث‏'-جون زيجلر

جون زيجلر
الكاتب والمفكر السياسي السويسري المدافع الأول عن قضايا الفقر والجوع في العالم
‏'‏الحرب العالمية الثالثة دائرة حاليا ضد شعوب العالم الثالث‏'‏

حوار‏:‏ سوسـن حسين


مجلة السياسة الدولية يناير 2003 - العدد 151

‏*‏ جون زيجلر ‏
Jean Ziegler‏
الكاتب السياسي السويسري الشهير الذي فضح النظام الاقتصادي العالمي الجديد وكشف عوراته وحذر من الآثار السيئة للعولمة والكوارث الإنسانية التي ستترتب علي تطبيقاتها ودعا إلي مقاومة هذا التيار المكتسح‏,‏ وأثارت آراؤه السياسية الجريئة جدلا واسعا في الأوساط الثقافية والسياسية في العالم أجمع وأجرت كما يقولون أطنانا من الحبر علي الورق في مناقشات حامية مثيرة بين مؤيد ومعارض لكتاباته التي شهدت رواجا دوليا منقطع النظير‏.‏

‏*‏ اهتم زيجلر منذ الصغر بقضايا الفقر والجوع في العالم‏,‏ وحدد هذا الاهتمام اتجاهاته الدراسية والمهنية‏.‏ درس في جامعات سويسرا وفرنسا والولايات المتحدة وحصل علي الدكتوراه من جامعة برن عام‏1967,‏ ويعمل حاليا أستاذا للعلوم الاجتماعية والاقتصادية بجامعة جنيف وجامعة السوربون‏.‏ وقد أنشأ في جامعة جنيف قسما لدراسة مجتمعات العالم الثالث‏,‏ وقام بعدة رحلات حول العالم وركز علي مجتمعات الجنوب التي تعاني من الفقر والجوع وخاصة دول أفريقيا السوداء‏.‏


‏*‏ ظل جون زيجلر عضوا في البرلمان الاتحادي السويسري وعضوا بارزا في لجنة العلاقات الخارجية حتي يونية عام‏1991‏ عندما رفعت الحصانة عنه بسبب انتقاده للنظام البنكي السويسري وفضحه للمسئولين عن الأموال المنهوبة من ضحايا الهولوكوست من اليهود وغسلها في البنوك السويسرية‏.‏ ولم يمنع ذلك من إعادة انتخابة بأغلبية ساحقة في أكتوبر من نفس العام لعضوية المجلس الوطني عن الحزب الاشتراكي‏.‏ وقد خاض زيجلر عدة معارك قضائية رفعتها ضده سبعة بنوك ومؤسسات مالية سويسرية ومع ذلك استمر في كتاباته ذات المحتوي الثوري‏.‏ وقامت وسائل الإعلام بتغطية شاملة لهذه الوقائع‏.‏ كما استدعته اللجنة البنكية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي للإدلاء بأقواله حول الأموال المنهوبة والمودعة في البنوك السويسرية‏.‏


وفي سبتمبر عام‏2000‏ اختارته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ليكون مقررا للجنة‏'‏ الحق في الغذاء‏'‏ وقدم تقارير مفصلة عن الأخطار التي تهدد العالم الثالث والدول الأفريقية بالذات التي نهبتها القوي الاستعمارية من قبل وتدوسها العولمة الاقتصادية اليوم بالأقدام‏.‏

ومن أشهر كتبه‏'‏ سويسرا تغسل أكثر بياضا ‏'
'La Suisse Lave Plus Blanc‏'
إذ قام بفضح المؤسسات المالية ذات الأنشطة المشبوهة في سويسرا‏.‏

وكتابه‏'‏ أمراء الجريمة‏'
'Les Seigneuss du Crime'
‏ الذي يؤكد أن العولمة الاقتصادية وانهيار الشيوعية وعجز بعض الدول يفيد الجريمة المنظمة وعملاءها الذين يستولون تدريجيا علي العالم‏.‏

وكتابه الذي أقام الدنيا ولم يقعدها‏ '‏ سويسرا والذهب والموت'
'‏La Suisse,L'Or el la Mort‏'
ويحكي قصة الذهب الذي سرقته المخابرات الألمانية من ضحايا الهولوكوست وأودعته بنوك سويسرا‏.‏

وأحدث كتبه‏'‏ أسياد العالم الجدد'
‏'Les Nouveaux Maitres du Monde'
وهو الكتاب الذي يحكي تاريخ العولمة وأيديولوجية أسياد العالم الجدد ويحلل أنشطتهم وأنشطة المرتزقة الذين يخدمونهم ويضخون الأوال في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية‏.‏

بصفتك مفكرا بارزا وهب نفسه للدفاع عن قضايا العالم الثالث ولك مؤلفات عديدة يدور معظمها حول مشكلات الفقر والجوع في دول الجنوب وكيفية التصدي لها‏,‏ حتي اختارتك منظمة الأمم المتحدة لتكون مقررا للجنة‏'‏ الحق في الغذاء‏';‏ ما الذي جعلك تهتم بمشاكل الفقر والجوع في العالم ؟

‏*‏ هناك حكمة قديمة تقول‏'‏ ماذا تفيد مشاعرك الطيبة إن لم تترجمها إلي عمل‏.‏ وماذا يفيد العلم إن لم تكن له تطبيقات ونتائج‏'.‏ وحكمة أخري تقول‏'‏ لا تهتم بأن تترك هذا العالم وأنت إنسان طيب‏.‏ وإنما اهتم بأن تترك وراءك عالما طيبا‏'.‏

إن كتابي‏'‏ الجوع في العالم‏...‏ قصة مهداة إلي إبني‏'‏ هو ثمرة لثورة الإنسان ضد الأوضاع الظالمة في هذا العالم‏.‏ فنحن نعيش اليوم في ظل أوضاع بالغة الشذوذ‏.‏

إن من يحكم العالم في وقتنا هذا وفي بداية الألفية الثالثة هو النظم المالية العابرة للقارات أي الرأسمالية العالمية بنظمها وحكوماتها‏,‏ والممارسات اليومية لهذه الرأسمالية وأسلوبها في تشريع أعمالها تتعارض بشكل جذري مع مصالح الغالبية العظمي من سكان كوكب الأرض‏,‏ بل وتضر بها ضررا بالغا‏.‏ إن العولمة تدفع تدريجيا بالاقتصاديات الوطنية في اتجاه سوق رأسمالي عالمي وفي ظل توجهات موحدة‏.‏ أي تعمل علي الإدماج الجبري لهذه الاقتصاديات في السوق العالمية‏:‏ واعترف أن هذه العملية تؤدي بلا شك إلي تنمية ضخمة للقوي الإنتاجية وتخلق ثروات ضخمة كل لحظة‏.‏ كما أن التراكم الرأسمالي ونظم الإنتاج تدل علي قوة وحيوية وإبداع مذهل ويستحق الإعجاب أيضا‏,‏ ففي خلال أقل من حقبة من الزمان تضاعف الناتج العالمي وزاد حجم التجارة العالمية ثلاثة أضعاف‏,‏ أما استهلاك الطاقة فيتضاعف في المتوسط كل أربع سنوات‏.‏ ولأول مرة في التاريخ تنعم البشرية بمثل هذا الازدهار وتتمتع بغزارة في الثروات والخيرات‏.‏ وأصبح كوكب الأرض يرزح تحت وطأة ثرواته التي تفوق بآلاف المرات احتياجات سكانه من البشر‏.‏

ومع ذلك يموت يوميا علي هذا الكوكب المتخم بالثروات حوالي‏100‏ ألف شخص من الجوع أو من الآثار المباشرة للجوع وتمتلئ القبور بعدد متصاعد من ضحايا هذا الجوع‏.‏ وهناك في الوقت الحالي‏826‏ مليون فرد يعانون بشكل مزمن وخطير من سوء التغذية‏,34‏ مليونا من هؤلاء يعيشون في بلاد الشمال المتقدمة اقتصاديا‏,‏ والعدد الأكبر وهو‏515‏ مليون يعيشون في آسيا حيث يمثلون‏24%‏ من إجمالي السكان‏.‏ ولكن إذا قسنا نسبة ضحايا الجوع إلي العدد الكلي للسكان فإن إفريقيا السوداء هي التي تدفع أفدح ضريبة‏:186‏ مليون كائن بشري يعانون بصفة دائمة من سوء التغذية‏,‏ أي‏34%‏ من اجمالي سكان المنطقة‏.‏ ويعاني معظم هؤلاء مما تسميه منظمة‏'‏ الفاو‏'‏ بـ‏'‏ الجوع الفتاك‏'‏ وحصتهم اليومية من الغذاء لا تكاد تصل إلي‏300‏ سعر حراري وهي لا تكاد تكفي لإبقائهم علي قيد الحياة‏.‏

لنتذكر هنا قصة الشابين الأفريقيين الذين وجدت جثتاهما مجمدتين في مخزن طائرة بوينج هبطت في مطار بروكسل وقد عثر في جيب أحدهما علي رسالة مؤثرة موجهة إلي العالم الغربي يقولان فيها أنهما ضحيا بنفسيهما من أجل أن يتنبه العالم المتقدم إلي الأوضاع المأساوية للقارة الإفريقية‏!!‏

إن أكثر الدول المصابة بالجوع الفتاك هي تلك الواقعة في إفريقيا السوداء‏-18‏ دولة‏-,‏ وهايتي في جزر الكاريبي وأفغانستان وكوريا الشمالية وبنجلادش ومنغوليا في آسيا‏.‏

إن فرسان الهلاك‏,‏ وهم الجوع والعطش والأوبئة والصراعات الداخلية يدمرون سنويا أعدادا من الرجال والنساء والأطفال تفوق بكثير أعداد ضحايا مجازر الحرب العالمية الثانية خلال ستة أعوام‏.‏ بل نستطيع أن نقول أن الحرب العالمية الثالثة دائرة حاليا بالنسبة لشعوب العالم الثالث‏:‏ فكل سبع دقائق يموت علي الأرض طفل عمره أقل من عشر سنوات من الجوع‏.‏

عندما ذهبت إلي البرازيل في مارس الماضي كمبعوث خاص للجنة‏' الحق في الغذاء'‏ رأيت أن الأوضاع في هذه الدولة حيث يعاني‏55‏ مليون شخص من سوء التغذية والجوع هي أوضاع لا يمكن السكوت عليها أو قبولها‏.‏ كيف تفسر هذا التوازن الغذائي المختل في بلد يفيض بالثروات والخيرات؟

‏*‏ طبقا لتقارير الحكومة البرازيلية يوجد‏22‏ مليون شخص من الرجال والنساء والأطفال البرازيليين يعانون بشكل خطير من سوء التغذية‏,‏ وتؤكد المعارضة البرلمانية أن عدد ضحايا الجوع المزمن في البرازيل يصل إلي‏44‏ مليونا‏,‏ في حين أشار مؤتمر الأساقفة الذي انعقد عام‏2001‏ إلي أن عدد هؤلاء قد بلغ‏53‏ مليونا‏.‏

إن البرازيل تعتبر تاسع قوة اقتصادية في العالم وهي دولة تفيض كما تقولين بالخيرات والثروات‏.‏ وأحد الأسباب الرئيسية لتفشي الجوع في البرازيل هو التوزيع غير العادل للثروات‏.‏ إن الإصلاح الزراعي موجود في القانون البرازيلي ولكن البيروقراطية والفساد يكتمان صوته ويكممان فمه‏.‏ إن‏2%‏ من الملاك في البرازيل يملكون‏43%‏ من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة‏.‏

لنعد قليلا إلي الوراء لنبحث في الأسباب التاريخية العميقة لهذه الأوضاع الشاذة‏.‏ فعندما تم اكتشاف البرازيل وتم احتلالها من قبل البرتغال‏,‏ قام الغزاه البرتغاليون بتشتيت سكانها الأصليين والقضاء عليهم وذلك في بداية القرن السادس عشر وقام ملك البرتغال بتقسيم الأراضي التي استولي عليها طبقا لنظرية بسيطة هي‏:‏ تقطيع الأراضي الساحلية الي شرائح طولية وأعطي لكل واحد من جنرالاته وقواده وقساوسته وحاشيته شريحة وأعطاهم الحق في التوغل إلي الداخل والاستيلاء علي كل الأراضي التي يستطيعون اختراقها في خط مستقيم الي داخل القارة المجهولة‏.‏ وكانت هذه الأملاك الشاسعة تسمي كابيتانياس‏Capitanias.‏

وفي عام‏1821‏ أعلنت الامبراطورية البرازيلية المستقلة‏.‏ ثم في عام‏1888‏ تم إلغاء نظام العبيد‏,‏ وأعلنت الجمهورية عام‏1889.‏ ولكن حتي بعد اعلان الجمهورية استمرت هذه المقاطعات كما هي‏,‏ لذلك استمر هذا النظام الرث الإجرامي للملكية في البرازيل‏.‏

لقد انتدبت من قبل لجنة حقوق الإنسان‏'‏ التابعة للأمم المتحدة لمراقبة تنفيذ اعلان روما‏'‏ حول‏'‏ الأمن الغذائي في العالم‏',‏ وكذلك الإشراف علي خطة عمل‏'‏ مؤتمر الغذاء العالمي‏'..‏ ما مدي إمكانية نجاح هذه الخطة في المستقبل؟

‏*‏ إن‏'‏ مؤتمر روما‏'‏ كان فاشلا‏,‏ لم يحضر هذا المؤتمر أي رئيس دولة أو حتي رئيس حكومة من العالم الصناعي فيما عدا رئيس وزراء أسبانيا وكان وقتها رئيس لجنة الاتحاد الأوروبي ورئيس وزراء إيطاليا لبضع ساعات فقط‏.‏ والقرار الوحيد الذي يعد إيجابيا إلي حد ما كان هو قرار تشكيل مجموعة عمل من أجل إعداد مقترحات تقدم إلي منظمة‏'‏ الفاو‏'‏ كل عامين تهدف إلي مواجهة مشكلة الجوع والتخفيف من آثارها‏.‏

ما هو الفرق بين الأمن الغذائي والحق في الغذاء ؟

‏*‏ إنه اختلاف جذري‏,‏ اختلاف أساسي‏,‏ الأمن الغذائي هو هدف سياسي يمكن أن تضعه حكومة وتعمل علي تحقيقه‏,‏ أما الحق في الغذاء فعلي العكس هو حق من حقوق الإنسان علي قدم المساواة مع جميع حقوق الإنسان الأخري مدنية كانت أو سياسية‏,‏ ولابد أن تكفلها القوانين المحلية والعالمية‏.‏

لقد أدنت مرارا وتكرارا فرض العقوبات الاقتصادية ضد دول لأسباب سياسية لأن ضحايا هذه العقوبات تكون عادة هي شعوب هذه الدول‏..‏ ما هي الإجراءات التي تنصح بها للتصدي لهذه المشكلة ؟

‏*‏ إن العقوبات الاقتصادية التي تفرض بلا تمييز هي انتهاك سافر لحقوق الإنسان يدينها ميثاق الأمم المتحدة‏,‏ وكذلك‏'‏ إعلان فيينا‏'‏ لعام‏1993.‏ وقد أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام‏2001‏ الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة ضد كوبا بأغلبية‏173‏ صوتا ضد ثلاثة وللعام العاشر علي التوالي‏,‏ وأنا شخصيا أدين الحظر ضد العراق الذي أقره مجلس الأمن والذي أدي إلي نتائج مأساوية بالنسبة للشعب العراقي الذي عاني ويعاني من الجوع والمرض‏.‏ إن هذا القرار لا يمكن الدفاع عنه بأي شكل من الأشكال‏.‏

في التقرير الذي قدمته عند انعقاد الجلسة رقم‏55‏ للجنة حقوق الإنسان في أبريل الماضي تحدثت عن الانفصام الموجود داخل منظمة الأمم المتحدة بين مؤسساتها المختلفة التي تتناقض أنشطة بعضها مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية تناقضا صارخا مع أنشطة الوكالات التي تعمل من أجل إقرار العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان‏..‏ ما هو الحل لمثل هذا التناقض؟

‏*‏ يجب الإشادة هنا بالوثائق الثلاث الأساسية التي أعدتها منظمة الأمم المتحدة ابتداء من عام‏1992‏ برئاسة الأمين العام في ذلك الوقت الدكتور بطرس بطرس غالي‏,‏ وهي أجندة للسلام‏,‏ أجندة للتنمية‏,‏ وأجندة للدمقرطة‏.‏ وهذه الأجندات الثلاثة تضع استراتيجية واضحة وجريئة لجميع أجهزة الأمم المتحدة‏.‏ ومع ذلك استمرت حالة الانفصام في المنظمة ولم يستطع الدكتور بطرس غالي رغم شخصيته القوية ووضوح رؤيته أن يضع حدا لهذا الانفصام‏.‏

إن منظمة الأمم المتحدة تشكل كوكبا يسكنه مئات وآلاف من الرجال والنساء من ذوي الكفاءات والوظائف المختلفة‏,‏ وكثير منهم يتمتعون بالذكاء الحاد والمهارات العالمية‏.‏ إن منظمة الصحة العالمية‏,‏ ومنظمة العمل الدولية والمنظمة العالمية للملكية الفكرية‏,‏ ومنظمة الزراعة والتغذية‏,‏ والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية‏,‏ ومنظمة العلوم والثقافة‏..‏ جميعها تقوم بأعمال عظيمة ورائعة‏.‏

لنذكر بعض الأمثلة‏:1-‏ المعركة التي شنتها منظمة الصحة العالمية ضد الأوبئة وانجازاتها العظيمة‏,2-‏ معركة اليونيسيف والفاو من أجل انقاذ ضحايا الجوع‏,3-‏ الاستراتيجية الرائعة التي وضعتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان ضد التفرقة العنصرية والتعذيب والتمييز‏,4-‏ المساعدات اليومية التي تقدمها المفوضية السامية لشئون اللاجئين إلي ملايين الأشخاص عبر العالم وغيرها‏,‏ ومع ذلك كل ما يفعله خبراء الأمم المتحدة بذكاء وشجاعة من أجل مساعدة البائسين والفقراء في العالم لا يشكل سوي شيء ضئيل وبسيط إذا قورن بحجم الخسائر الفادحة التي تصيب هؤلاء بسبب عملاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية‏!‏
إن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية تعمل انطلاقا مما يسمي‏'‏ باتفاق واشنطن‏'‏ أو‏'‏ إجماع واشنطن‏'‏ وهو مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلي التحرير الكامل لتدفقات رؤوس الأموال والسلع والخدمات والمعلومات‏,‏ وتهدف إلي الخصخصة الكاملة لجميع أنشطة القطاع العام وعقيدتهم في ذلك هي‏'‏ عولمة السوق‏'.‏ وهذا موقف شاذ ومضحك‏!!‏ فوكالات ومنظمات الأمم المتحدة التي تعمل من أجل مساعدة الإنسانية تقوم بتقديم تقرير سنوي لنشاطها إلي المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة‏,‏ وكذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية هي أيضا مؤسسات تابعة للأمم المتحدة وتخضع لنفس الرقابة علي أنشطتها من قبل نفس المجلس‏.‏ وهذا المجلس مكون من‏54‏ دولة منتخبة من قبل الجمعية العمومية طبقا للمادة‏10‏ من ميثاق الأمم المتحدة وعمل هذا المجلس المنتخب هو ضمان تناسق الجهود والأنشطة المبذولة مع سياسة مؤسسات ووكالات وبرامج الأمم المتحدة‏.‏

وإذا رسمنا صورة كاريكاتورية للوضع الحالي لمئات الملايين من الرجال والنساء والأطفال في المنطقة الجنوبية من الكرة الأرضية‏,‏ نستطيع أن نقول‏:'‏ إن مرتزقة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية يدمرون يوميا وبيد من حديد جميع البرامج الاجتماعية التي تحققت بفضل العاملين بالمنظمات الإنسانية ومنظمات التنمية‏.‏

تماما كما تفعل حكومة شارون التي تقضي علي كل ما هو أخضر ويابس في المدن والقري الفلسطينية بحجة محاربة‏'‏ الإرهاب الفلسطيني‏'‏؟

‏*‏ إن سياسة القهر الاستعماري التي ينتهجها الجنرالات الإسرائيليون وعلي رأسهم شارون هي في رأيي سياسة إجرامية تندرج تحت بند‏'‏ جرائم ضد الإنسانية‏'.‏

إن حكومة شارون تمارس عمليات قتل انتقائية للزعماء السياسيين الفلسطينيين وتقوم بالتدمير الشامل للمزارع والآبار والمساكن المأهولة‏,‏ وتمارس الاعتقالات العشوائية الظالمة وتعذيب المعتقلين بلا توقف‏.‏ إن هذه الحكومة تهاجم وتحتل بجيوشها مدن وقري فلسطينية واقعة في مناطق الحكم الذاتي التي تحميها اتفاقيات أوسلو‏.‏ وهناك تحت أنقاض المنازل التي دمرتها طائرات الأباتشي أو تلك التي سحقتها الدبابات يوجد إلي جانب الجثث رجال ونساء وأطفال يحتضرون وأحيانا لمدة أيام بلا أية اسعافات‏.‏ إن انتقام شارون الأعمي لا علاقة له بالمباديء الإنسانية لمؤسس الدولة الإسرائيلية وتسامحهم‏,‏ ولكنه للأسف يحظي بمباركة واشنطن ومساندتها‏.‏

إذن ما هي مقترحاتك لمواجهة هذا التصاعد الخطير في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي ربما قد يؤدي إلي كارثة عالمية ؟

‏*‏ في رأيي أن الإجراء الأشد إلحاحا الذي يقع علي عاتق المجتمع الدولي مسئولية اتخاذه هو إرسال قوات فصل مسلحة دولية إلي فلسطين علي غرار تلك الموجودة بالفعل في كوسوفو وتيمور الشرقية‏.‏ فلابد من حماية شعب فلسطين الشهيد من مذابح قوات الاحتلال الصهيونية‏.‏ ثم ينبغي أن توضع موضع التنفيذ دون أي تعديل نصوص القرار الرسمي الذي اتخذته الأمم المتحدة عام‏1947‏ والمسمي‏'‏ بقرار التقسيم‏'‏ وإزالة المستوطنات الإسرائيلية وضمان الحق السليب للاجئين الفلسطينيين في العودة إلي وطنهم‏.‏

وما العمل إذا كانت إسرائيل لا تذعن لهذه القرارات وتساندها في ذلك الولايات المتحدة ؟

‏*‏ إنها مسئولية المجتمع الدولي والضمير الجماعي لهذا المجتمع الذي آن الأوان له أن يستيقظ‏!!‏

ما هو حكمك علي مطالب الدول التي يقال عنها دول الجنوب وكيف يمكن توفير احتياجات شعوب هذه الدول ؟

‏*‏ إن الوضع في الحقيقة مفجع‏.‏ فبينما يزداد الأغنياء ثراء علي ثراء‏,‏ يزداد الفقراء ترديا في الفقر وبسرعة أكبر‏.‏ وطبقا لاحصائيات عام‏2002‏ نجد أن‏20%‏ فقط من سكان العالم يستحوذون علي أكثر من‏80%‏ من الثروات ويملكون أكثر من‏80%‏ من السيارات التي تمر في الطرقات ويستهلكون‏20%‏ من الطاقة‏.‏ في حين أن أكثر من مليار شخص من الرجال والنساء والأطفال يقتسمون‏1%‏ من الدخل العالمي‏!!‏

وهكذا انخفض دخل الفرد في الفترة ما بين‏1992‏ و‏2002‏ انخفاضا مهولا في‏81‏ دولة لدرجة أن معدل عمر الإنسان هناك انخفض في دولة مثل رواندا إلي أقل من‏40‏ سنة‏,‏ وفي أفريقيا السوداء إلي‏47‏ سنة‏.‏ إن الفقر يجتاح دول العالم الثالث اجتياحا سريعا بحيث تزايد عدد من هم أشد فقرا فبلغ نحو مائة مليون نسمة خلال عقد واحد من الزمان‏.‏

وهذا التفاوت المتزايد الذي بات يحكم العالم يعود قبل كل شيء إلي سوء توزيع القدرة الشرائية ويظهر بشكل أوضح وبصورة مؤلمة في مجال الصحة‏.‏ فبالرغم من أن دول العالم الثالث تأوي أكثر من‏85%‏ من سكان هذا العالم إلا أن هذه الدول لا تمثل في السوق العالمية للأدوية سوي نسبة‏25%‏ فقط‏.‏ فنجد مثلا أن معامل الأدوية قد انتجت‏1223‏ نوعا جديدا من الدواء فيما بين عامي‏1975‏ و‏1996,‏ لم يتعد ما عني منها بعلاج الأمراض الإستوائية سوي‏11‏ دواء فقط‏.‏

هل تعتقد أن مثل هذه المطالب الإصلاحية يمكن أن تتحقق بصورة أفضل لو عولجت علي مستوي حكومات الدول المعنية أو علي مستوي أحزاب هذه الدول؟ وذلك لإعداد استراتيجية مشتركة لمحاربة الفقر والجوع؟

‏*‏ إزاء هذا الانحسار المتزايد للسلطة التقديرية في الدول فإن المجتمع المدني العالمي الجديد الآخذ في البزوغ يمثل أملا كبيرا‏.‏

منذ الخمسينات وعندما ظهر كتاب جوسيه دي كاسترو الشهير‏'‏ الجغرافية السياسية للفقر'
‏'La Geopolitique de la Faim'
,‏ ما هو تقييمك لما تم عمله في هذا المجال من ذلك الوقت وحتي الآن مع الأخذ في الاعتبار الزيادة السكانية وخاصة في دول العالم الثالث؟

‏*‏ لقد كتب خوسيه دي كاسترو كتابه الشهير‏'‏ الجغرافيا السياسية للجوع‏'‏ في بداية الخمسينات‏-‏ ظهرت أول ترجمة له بالفرنسية في عام‏1952-‏ ومنذ ذلك الحين زاد عدد الضحايا زيادة ضخمة بالأرقام الحقيقية‏.‏ ومما لا شك فيه أن منحني الجوع قد تأثر كثيرا بمنحني الزيادة السكانية‏.‏

والمأساة التي يعايشها الفرد اليوم لم تختلف عما كانت عليه منذ نصف قرن من الزمان‏.‏ فالطفل الذي عاني من نقص في الغذاء المناسب وفي كمياته منذ مولده وحتي سن الخامسة سوف يظل يعاني من آثار ذلك مدي الحياة‏.‏ وإذا كان من الممكن اليوم أن نعيد شخص بالغ عاني فترة من الوقت من سوء التغذية الي حالته الطبيعية من خلال علاج ناجع يمارس تحت إشراف طبي‏.‏ إلا أن ذلك مستحيل بالنسبة لطفل لم يتجاوز الخمس سنوات لأن خلايا المخ التي حرمت من الغذاء المناسب تصاب بتلف خطير لا يمكن معالجته حتي لقد أطلق علي هؤلاء الصغار اسم‏'‏ المصلوبون منذ المولد‏'.‏

إن الجوع وسوء التغذية المزمنة يمثلان لعنة متوارثة‏:‏ فكل عام تضع عشرات الملايين من الأمهات اللاتي يعانين من سوء تغذية شديدة عشرات الملايين من الأطفال المصابين وغير القابلين للعلاج‏,‏ وكل هؤلاء النسوة اللاتي يعانين من سوء التغذية ومع ذلك يلدن‏.‏ يجعلنا نتذكر نساء‏'‏ صمويل بيكيت‏'‏ الملعونات اللاتي‏'‏ يلدن وهن واقفات علي القبور‏.'.‏ إن هناك بعدا من العذاب الإنساني غائب عن هذا الوصف وهو المعاناة المؤلمة وغير المحتملة التي يعاني منها الشخص الذي يتضور جوعا منذ استيقاظه من النوم‏:‏ كيف سيستطيع مع مطلع هذا النهار الجديد الحصول علي ما يسد رمق أطفاله بل ورمقه هو نفسه؟ أن يعيش الإنسان في هذا القلق ربما يكون أبشع من الآلام الجسمانية والأمراض المختلفة التي يعاني منها هذا الجسد الهزيل‏.‏

إن هذا الدمار الذي يلحق بملايين الأرواح البشرية بفعل الجوع يتم يوميا بشكل عادي وبارد فوق كوكب الأرض الذي يزفر بالثروات‏.‏ فالأرض بفضل ما وصلت اليه من تقدم في التنمية الزراعية تستطيع أن توفر الطعام لاثني عشر مليار نسمة‏.‏ بقول آخر يمكنها أن تقدم لكل فرد من هؤلاء ما يعادل‏2700‏ سعرا حراريا يوميا طبقا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة لعام‏2000!.‏ ولما كان عددنا علي كوكب الأرض لا يتجاوز إلا بقليل الستة مليارات نسمة‏,‏ وأن‏826‏ مليون نسمة يتضورون جوعا ويعانون من سوء تغذية حادة‏,‏ فالمعادلة إذن هي ببساطة‏:‏ إن من يملك المال يأكل ويعيش ومن لا يملك يتعذب ويصبح عاجزا أو يموت‏!‏

إن هذا الجوع المستشري وسوء التغذية الحادة هما من صنع الإنسان والسبب هو النظام المشئوم والظالم السائد في العالم‏.‏ ولابد أن نعتبر أن من يموت جوعا هو ضحية لجريمة اغتيال وقتل متعمد‏.‏ إن أباطرة الرأسمالية في العالم هم الذين يقررون عن طريق استراتيجياتهم الاستثمارية وتحالفاتهم السياسية من يعيش ومن يموت‏,‏ من له حق الحياة علي الأرض ومن محكوم عليه بالإعدام‏!‏

إن رفض النظام العالمي الجديد والهيمنة الآحادية الأمريكية يتزايد بصفة مستمرة‏..‏ ما هو رأيك في الحركة المناوئة للعولمة؟ وهل ستستطيع التصدي للطوفان القادم؟

‏*‏ إن أكثر من‏600.000‏ رجل وإمرأة ينتمون إلي أكثر من‏2000‏ حركة اجتماعية مختلفة من خمس قارات وفدوا إلي البرازيل لحضور‏'‏ المنتدي الثاني العالمي‏'‏ في بورتو الليجرو عام‏2002,‏ وقد طالب هؤلاء بالقضاء علي صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وإلغاء الإعفاءات الضريبية ووكالات التقييم والتصنيف ونادوا باستقلال البنوك المركزية واغلاق بورصة المواد الخام الزراعية بشيكاغو‏,‏ وحظر استغلال الأحياء والجينات المعدلة وشطب الديون الخارجية لدول العالم الثالث دون مقابل والرقابة العامة علي دمج الشركات وإنشاء مجلس أمن للشئون الاقتصادية والاجتماعية داخل الأمم المتحدة والمطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان وأخذها في الاعتبار في القانون الوضعي‏.‏ هذا يعد مؤشرا واضحا علي تصاعد هذا الرفض للنظام العالمي الجديد والهيمنة الآحادية الأمريكية‏,‏ وأتمني أن تزداد هذه الحركة الرافضة قوة وانتشار حتي يصبح لها ثقلا في صنع القرار الدولي‏.‏

في حالة الصراعات المسلحة كيف يمكن توفير الوسائل الكفيلة بتحقيق مبدأ‏'‏ الحق في الغذاء‏'‏ بالنسبة للسكان المدنيين وأيضا بالنسبة لأسري الحرب علي الجانبين؟

‏*‏ للقانون الدولي الإنساني قصة طويلة‏,‏ فحماية الحق في الغذاء تعد‏-‏ منذ بداية العهد به‏-‏ أحد اهتماماته الرئيسية‏-‏ ولنستمع إلي القصة‏.‏

إنه أمر شيق أن نشهد مولد معيار جديد وغير مسبوق في الوجدان الجماعي للأمم‏.‏ ونقصد به‏'‏ الحركة الدولية للصليب الأحمر‏'‏ التي كانت أول من دافع بانتظام عن القانون الإنساني وطور مفاهيمه‏.‏ إن هذه الحركة قد نشأت غداة معركة سولفارينو عام‏1859‏ وأصبحت اليوم راعية وحامية لهذا القانون‏.‏ وعلي الجانب النظري ينبغي أن نذكر أيضا الدور الأساسي الذي لعبه فيدور فيدوروفيتش دومارتن
‏Fedor Fedorovitch De Martens
‏ الفيلسوف والمشرع القانوني للحكومة الروسية ابان مؤتمر السلام في لاهاي عام‏1899‏ هو ومساعده اندريه مندلستام‏
Andrei Mandelstam
.‏ وهذه هي نظريتهما‏:‏ القانون الإنساني يستقي جذوره من‏'‏ ضمير العالم‏'‏ وهو ما يطلق عليه أيضا‏'‏ الضمير الجماعي‏'‏ أو إن شئنا أن نكون أكثر دقة‏'‏ ضمير الذات‏'.‏ فالضمير الذاتي هو أساس القانون الإنساني‏,‏ وكان هنري دونان
‏Henri Donan
‏ هو الذي حصل علي التوقيع علي اتفاقية جنيف الأولي لعام‏1864‏ التي قامت علي أساس المبدأ التالي‏:‏ يجب ضمان حياة الإنسان الجريح‏,‏ فالجريح وإن كان عدوك‏,‏ إلا أنه مثلك‏,‏ هو نظيرك‏,‏ يجب أن نطعم الأسير وأن نروي ظمأه لأن‏'‏ الضمير العالمي‏'‏ القائم علي أساس الإدراك التلقائي لوحده ذات جميع الكائنات يقتضي ذلك‏.‏

كما ينص البروتوكول الثاني الذي أضيف لاتفاقيات جنيف والذي يهدف إلي حماية المجتمعات المدنية خلال الحروب الدولية وغير الدولية في مادته الرابعة عشرة علي ما يلي‏:'‏ يحظر استخدام التجويع كأسلوب قتال ضد السكان المدنيين‏,‏ ومن ثم يحظر مهاجمة أو تدمير أو نهب أو إتلاف أية سلع لا غني عنها لبقاء الشعب المدني علي قيد الحياة مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتج هذه المواد والزروع والماشية ومحطات وخزانات المياه وأدوات الري‏'.‏

والجزء الأهم من القانون الدولي الإنساني تتضمنه اتفاقيات جنيف الأربع لعام‏1949‏ والبروتوكولان الإضافيان لعام‏1977,‏ وأيضا معاهدة‏'‏ أوتاوا‏'‏ لعام‏1997‏ التي تحرم استخدام الألغام التي تضر بحياة الإنسان‏.‏ ونفس هذه المباديء الأساسية تحكم كافة النصوص‏:‏ عدم جواز شن أية عمليات عسكرية ضد مدنيين‏,‏ حظر الترحيل الإجباري للشعوب الذي يتسبب في حدوث المجاعات‏,‏ ضرورة توفير الاحتياجات الأساسية للسكان المدنيين بما في ذلك بطبيعة الحال الغذاء‏..‏ وتعريف‏'‏ المدنيين‏'‏ يشمل اللاجئين والمهجرين والصحفيين وما إلي ذلك‏.‏ كل هذه القواعد قابلة للتطبيق علي الصراعات المسلحة الدولية وغير الدولية علي السواء‏.‏

في عالم تتسع فيه الفجوة بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة‏,‏ ما هي الإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لمواجهة هذا الموقف في المدي القصير؟

‏*‏ إني أري أنه يجب إحلال المباديء الأساسية التي أوردها الدكتور بطرس بطرس غالي في أجنداته الثلاث حول كيفية ادارة كوكب الأرض محل‏'‏ اتفاق واشنطن‏',‏ ونقصد به مجموعة الاتفاقيات غير الرسمية التي عكف المجتمع المالي الدولي‏-‏ الأمريكي في الغالب‏-‏ ومؤسسات بريتون وودز علي إعدادها خلال حقبة الثمانينات‏,‏ ثم أضفي عليها ويليامسون الصفة الرسمية للمرة الأولي عام‏1989‏ تحت اسم‏'‏ اتفاق واشنطن‏'‏ بحيث يكون هذا‏'‏ الاتفاق‏'‏ قابلا للتطبيق علي أية دولة في أي قارة من القارات‏,‏ وهذا الاتفاق يدور حول مباديء أربعة هي‏:‏ التحرير الكامل والسريع وبأقصي قدر ممكن لكافة تدفقات رؤوس الأموال والسلع والخدمات المعرفية والعلمية التي تحميها براءات الاختراع‏,‏ خصخصة جميع الأنشطة الاقتصادية التابعة للدولة‏,‏ الاستقرار الاقتصادي الكلي‏,‏ ضغط الموازنات‏.‏

والهدف النهائي لهذا الاتفاق أي‏'‏ اتفاق واشنطن‏'‏ هو‏'‏ الحكم العالمي الرشيد لعالم بلا دول‏'‏ وهو ما يمكن ترجمته بـ‏'‏ التنظيم الذاتي لسوق عالمية موحدة‏'.‏

إنها صورة شاذة لمنطق استدلالي مدمر مستمد من جذور تاريخية بعيدة‏,‏ تلك هي الليبرالية الجديدة التي تزمع ترجمة القوانين الطبيعية التي تحكم مجريات الأمور وتحولها الي رموز‏.‏ وقد عرف بيير بورديو‏Pierre Bourdieu‏ هذه الليبرالية الجديدة علي النحو التالي‏:'‏ الليبرالية الجديدة سلاح فتاك‏,‏ فهي تنذر بقدوم حتمية اقتصادية لن تجدي أية مقاومة في درئها‏,‏ فالليبرالية الجديدة مثل مريض الإيذر‏.‏ إنها تدمر الجهاز المناعي لضحاياها‏'.‏ ومن أقوال بورديو المأثورة أيضا‏'‏ أن هذه القوانين الاقتصادية الإجبارية تخفي وراءها سياسة معينة‏..‏ هذه السياسة هي العمل علي الغاء السياسة وتعهد الي القوي الاقتصادية بالهيمنة الجبرية مع تحريرها من كل رقابة ومن كل قيد‏,‏ وفي الوقت ذاته الحصول علي خضوع الحكومات والمواطنين لتلك القوي الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقت من عقالها‏..‏ ومن دون جميع قوي الأقناع الخفية فإن أشدها إثارة للحنق هي تلك التي تمارس ببساطة من خلال الأمر الواقع والنظام السائد‏'.‏

وهذه الأيديولوجية تمثل في التاريخ الفكري انتكاسة كبري‏..‏ فهل ستعتمد الحياة فعلا علي القدرية؟ الأكذوبة كبيرة جدا‏..‏ ولكها مفيدة بالنسبة لأباطرة العالم الجدد‏,‏ فهي ستسمح لهم بإخفاء مسئولياتهم عن مصائر الشعوب التي يضطهدونها‏.‏

باختصار نقول‏:‏ المعركة التي يجب علي المثقفين العرب والأوروبيين خوضها هي معركة المفاهيم والمدلولات التي ينبغي أن تقود من الآن فصاعدا العمل الجماعي‏,‏ فلابد من التصدي للتطبيع والتعميم اللامعقول الذي يفرضه النظام الاقتصادي العالمي الجديد‏,‏ وذلك من خلال اقتصاد معياري يوجه وفقا للاحتياجات الأساسية للغالبية من الناس‏.‏

إن هذا النظام الرأسمالي العالمي الجديد ينطوي علي تناقضات كثيرة‏..‏ فهل يمكن أن تؤدي هذه التناقضات وهذه التنافسية الشرسة للسيطرة والاستغلال الي تدمير هذا النظام وظهور نظام جديد آخر أكثر عدالة؟

‏*‏ حقا إن النظام العالمي ينطوي علي تناقضات عديدة وتتصارع بداخله الأجنحة المتعارضة وتخترقه التنافسية الشديدة ويتميز بقسوة بالغة وواقعية شديدة‏,‏ وكل الطرق مباحة للقضاء علي المنافس‏,‏ ولكن إذا حدث تهديد لهذا النظام في مجمله أو في جزء أساسي منه أو حتي معارضته كما حدث في مؤتمر قمة الثمانية في يونية‏2001,‏ أو في مؤتمر بورتو الليجرو في يناير‏2002,‏ يهب عتاولة هذا النظام ومرتزقته ويتحدوا في كتلة واحدة‏,‏ يدافعون بأسنانهم وأظافرهم عن خصخصة العالم التي تمنحهم هذه المزايا الهائلة والثروات الخيالية‏..‏ ضيفي الي ذلك الفساد وأجهزته التي تتفشي وخاصة في العالم الثالث لأن النظام الرأسمالي العالمي لا يمكن أن يعمل دون المساعدة النشطة للفساد داخل الحكومات القائمة‏.‏ وهذا الفساد هو الذي أعطي أباطرة هذا النظام القدرة علي الاستمرار رغم أن اللاأخلاقية والانتهازية التي تسم أعمالهم لا تخفي علي أحد‏.‏ إن الوجه الرئيسي في السوق الرأسمالية أو في سوق عولمة رأس المال هو وجه‏'‏ النصاب‏'‏ أو‏'‏ قناص الثروات‏'‏ وهو المحرك الأول في هذه السوق يكدس الأموال ويدمر الدولة ويخرب الطبيعة والكائنات والإنسان ويفسد المسئولين ليضمن تسهيل أموره‏.‏

ومع ذلك هناك مجتمع مدني جديد آخذ في البزوغ‏,‏ هذا المجتمع يتحد في أخوة خفية ويظهر تدريجيا من بين أنقاض النظم القائمة ويعارض بشدة امبراطورية النصابين المتمثلة في زبانية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ويعمل علي توحيد صفوفه وتكوين قوي رفض متعددة لمحاربة هذا النظام الظالم‏..‏ وهذه المعارك تثير لدينا أملا جديدا‏.

منقوووول للفائدة .
AlexaLaw