الاقتصاد السياسى للعولمة -مع اشارات للقارة الافريقي

محمد عبدالشفيع عيسى


مجلة السياسة الدولية العدد 150 - أكتوبر 2002

يمكن النظر الى مفهوم العولمة كبنية معرفية من خلال مستويين ، أولهما هو مستوى البنية الظاهرة أو السطحية ، وبهذا المعنى تعبر العولمة عن مستوى مرتفع نوعياً فى مدى وكثافة الاتصال أو سرعة وعمق التشابك على المستوى العالمى.أما المستوى الثانى فهو مستوى البنية العميقة ، وبهذا المعنى فإن العولمة تعبر عن عملية التعامل غير المتساوى بين -غير الأنداد- ، خاصة فى الميدان التكنولوجى ، أى أن العولمة فى ظاهرها هى تحقيقاً للاتصال والتشابك ، وفى باطنها نوعاً من الهيمنة.فالعولمة تبدأ كظاهرة ملموسة فى صورة اتصال وتشابك وتداخل فى العمق بواسطة الحرية ـ حرية الدخول الى المجتمعات والأوطان القومية ـ لتخرج من الحرية وقد تحولت الى نقيضها ، نقيض الظاهرة ، وهو هنا الهيمنة .

وتميل التكنولوجيا الجديدة الى توجيه رأس المال الدولى نحو اختراق الاقتصادات الأصغر حجماً والقدرة التكنولوجية الأدنى.ويتم هذا الاختراق بصورة يسيرة مادام التوجه الاقتصادى الرئيسى على صعيد السياسات المحلية فى تلك الاقتصادات هو إعلاء آليات السوق والقطاع الخاص.ويأخذ الاختراق صورة الشراكة بين فاعل أكبر ممثل فى دولة أو عدة دول صناعية فائقة التقدم ، تتقدم شركاتها عابرة الجنسيات وتقف من ورائها فى نفس الوقت.واذا كانت التكنولوجيا ، فى السياق الدولى الذى تسيطر عليه حفنة من الدول وبعض الشركات ، سمحت بالاختراق 'الليبرالى الحر' للاستثمارات ، فإن هذا الاختراق هو الذى يخلق مصالح مؤسسية ، داعية الى فتح الأسواق ودمج ماهو داخلى فيما هو دولى ، تحت مظلة المنظمات عالمية الطابع واتفاقات الشراكة المتعددة.

وخلال عقد العولمة الأخير خصوصاً ، نلاحظ أن القارة الافريقية كانت هى الخاسر الكبير مقارنة بمعظم شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية ، حيث حققت القارة السمراء أقل معدلات النمو بين مختلف مناطق العالم -3%- خلال عقد التسعينات ، ولم تسهم بأكثر من 5% من القيمة المضافة للصناعة التحويلية للبلاد النامية خلال العقد نفسه.وترجع الصورة المأساوية للقارة الافريقية ضمن اللوحة العالمية الى عدة عوامل تتعلق بعبء المديونية وظروف التصحر والجفاف ، والحروب والنزاعات الأهلية ، وغير ذلك.وقد أدت برامج العولمة الاقتصادية ـ برامج التثبيت والتكيف الهيكلى ـ الى انعكاسات سلبية على اقتصادات الدول الافريقية.وهو ما دعا بعض الاقتصاديين الافارقة لتقديم بعض الاجتهادات لما هو مطلوب فى مرحلة ما بعد التكيف الهيكلى ، اعتماداً على إعادة بناء جهاز الدولة ، وتنمية القطاعات الانتاجية ، وإعادة توزيع الدخل القومى اجتماعياً ، والسعى لتجاوز صيغة الهيمنة التى تفرضها القوى الكبرى.وبذلك يمكن التعامل بصورة فعالة مع واقع العولمة الجارية ، سعياً الى مستقبل يتجاوزها ، بالمشاركة فى بناء عالم جديد أفضل