شروط الميلاد الجديد للكيان الفلسطينى

عبد القادر ياسين
دراسات .....

مجلة السياسة الدولية , إبريل 2004 - العدد 113

على مدى ستة عشر عاما تلت نكبة 48 الفلسطينية ، تضافرت جملة من الكوابح والمعوقات التى حالت دون ظهور الكيان الفلسطينى ، حيث قوضت شتى البنى الفلسطينية السياسية والاقتصادية والثقافية والنقابية .

ويمكننا تقسيم هذه السنوات الست عشرة إلى ثلاث حقب زمانية ، أولاها امتدت من 1948 – 1955 وخلالها اتسمت حياة الفلسطينيين بالبؤس والحرمان وفقدان الأمل فى تحرير بلادهم والعودة إليها .

والحقبة الثانية تبدأ مع تبنى الرئيس المصرى جمال عبد الناصر النهج القومى التقدمى منذ أواسط 1955 بعدما رفضت الإدارة الأمريكية برئاسة ايزنهاور مد عبد الناصر بالسلاح حتى يرد الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة والحدود المصرية وتفاقم الأمر مع حادثة بير الصفا التى راح ضحيتها زهاء أربعين جنديا مصريا وفلسطينيا وسودانيا، وأدت إلى قيام انتفاضة فلسطينية عارمة عام 1955 ، كانت لها اكبر الأثر فى دفع عبد الناصر لاتخاذ قراراته بالاستجابة لمطالب تلك الانتفاضة والمتمثلة فى تحصين القطاع وتسليح الشعب وتدريبه ، فضلا عن إلغاء مشروع سيناء الذى كان عبد الناصر قد وعد الإدارة الأمريكية بتوطين اللاجئين المقيمين فى مصر وقطاع غزة فى منطقة بشمال غربى صحراء سيناء ، بل ذهب الرئيس المصرى ابعد من ذلك بتشكيله لوحدات فدائية فلسطينية تحت قيادة المخابرات الحربية المصرية فى قطاع غزة وحملت اسم الكتيبة 141 والتى توقف نشاطها مع اغتيال قائدها .

وجاء قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس فى يوليو 1956 ردا على سحب الإدارة الأمريكية والبنك الدولى عرضهما بتمويل السد العالى بسبب رفض عبد الناصر إلغاء صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955 ، وما تعرضت له مصر من عدوان ثلاثى فى خريف 1956 وفشله فى تحقيق هدفه باستعادة القناة وإسقاط نظام عبد الناصر ، ليمثل كل ذلك ذروة النهوض القومى العربى حيث تلاحقت تجلياته والتى برزت أهمها فى الثورة الوطنية فى لبنان ثم الثورة الوطنية فى العراق وبروز دولة واحدة ' الجمهورية العربية المتحدة '.

وجاء هذا النهوض القومى فى وقت استعاد فيه الاقتصاد الفلسطينى عافيته ، لكن قوة النظام العربى ظلت تحول دون تحكم هذا الاقتصاد المتعافى فى إخراج الكيان الفلسطينى إلى الوجود ، فاثر الفلسطينيون الاتكال على ذلك النهوض لتحرير أرضهم .

إلا انه مع الانفصال وتفكيك الوحدة المصرية السورية وما تلاه من تمزق وحدة الصف العربى والهبوط النسبى فى حالة النهوض بجانب دوافع أخرى ، أكد الفلسطينيون على أن التحرير هو طريق الوحدة وليس العكس .

هكذا تضافرت المحددات الفلسطينية والعربية والدولية ، فكانت منظمة التحرير الفلسطينية التى انبثقت عن المؤتمر الوطنى الفلسطينى الأول الذى عقد فى القدس خلال الفترة من 28/5- 2/6/1964 .

ويمكننا دراسة تلك المحددات الثلاثة على النحو التالى :

1- المحدد الفلسطينى :

شمل هذا المحدد العديد من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية.

فعلى المستوى الاقتصادى ، سعى الشعب الفلسطينى الذى يعانى من حالة البؤس والفقر فى البحث عن مخرج من تلك الحالة ، فكان السبيل هو الاتجاه إلى دول الخليج الغنية بنفطها والتى فى حاجة ماسة إلى العمالة فى شتى المجالات ، من هنا ساهمت التحويلات المالية للفلسطينيين فى انتعاش الاقتصاد الفلسطينى .

وعلى المستوى الاجتماعى ، فقد كان لانتعاش الاقتصاد الفلسطينى أثرا على الفئات الوسطى الفلسطينية كما وكيفا .

وعلى المستوى السياسى ، أخذت هذه الفئات فى البحث عن نفوذ سياسى مواز لحضورها الاقتصادى والتى بدأت نواتها بين المدرسين والتلاميذ وأنشئت العديد من الاتحادات الطلابية، ولذا لم يكن غريبا أن نرى على رأس فتح ثلاثة من رؤساء رابطة الطلبة الفلسطينيين فى القاهرة وهم ياسر عرفات وصلاح خلف وفاروق القدومى ، كما سعى الفلسطينيون للانخراط فى العمل العربى السياسى المشترك .

وفكريا ، لعب الكتاب والمبدعون الفلسطينيين دورا هاما فى انتشال شعبهم من حال البؤس واليأس .

وعسكريا ، كان للهيئة العربية العليا دورا كبيرا فى إعداد الجيش الفلسطينى بمساندة الدول العربية سوريا والعراق ومصر والتى ساهمت بدور كبير فى هذا المجال حينما ضاعف الرئيس المصرى عبد الناصر حجم ' الحرس الوطنى الفلسطينى ' فى قطاع غزة وأطلق عليه جيش فلسطين والذى كان نواة لجيش التحرير الفلسطينى عند قيام منظمة التحرير الفلسطينية .

2- المحدد العربى :

إذا كان النهوض العربى ( 1956 – 1961 ) قد أعطى دفعة قوية للقضية الفلسطينية ، إلا انه بنفس هذه الدفعة شكل طبقة قوية تمثلت بقوة النظام العربى حالت دون خروج الكيان الفلسطينى إلى الوجود .

ومع وصول الفئات الوسطى إلى سدة الحكم فى كل من مصر وسوريا والعراق والجزائر والسودان ، أعطت حافزا للفئات الوسطى الفلسطينية كى تتقدم الصفوف وتنتزع زمام المبادرة فى الحركة الوطنية الفلسطينية ، إلا أن إشارة البدء بتأسيس الفصائل الفدائية الفلسطينية كان على يد عبد الناصر ، ورغم ذلك فان تأسيس فصائل المقاومة الفلسطينية كان فى الكويت وذلك يرجع إلى أربعة عوامل :

* تركز اكثر من ربع مليون فلسطينى آنذاك فى الكويت .

* احتلال الأكاديميين الفلسطينيين مواقع مؤثرة فى دولة الكويت بما ساهم فى ترجيح كفة الفئات الوسطى الفلسطينية .

* اتساع هامش حرية التعبير آنذاك فى الكويت مقارنة بالدول العربية والخليجية الأخرى .

* عدم اشتراك الكويت فى عضوية ' نادى المنتفعين بالقضية الفلسطينية ' من بين معظم الدول العربية خاصة ما أطلق عليها ' دول الطوق ' المحيطة بإسرائيل ، مما سمح للفئات الوسطى حرية الحركة دون خشية من ضربات أمنية اجهاضية عربية شقيقة .

3- المحور الدولى :

لعب العامل الدولى دورا فى دفع الكيان الفلسطينى للظهور حيث وفر له المناخ الدولى المواتى ، وقد تمثل هذا العامل فى عدة تعبيرات :

- زيادة مشاركة المعسكر الاشتراكى فى صنع القرار السياسى العالمى خاصة بعد أن تحولت الاشتراكية إلى نظام عالمى يستظل بها اكثر من ثلث مجموع سكان العالم وبعد أن حقق السوفيت التوازن النووى مع الولايات المتحدة الأمريكية .

- احتدام الصدام الصينى – السوفيتى بما وفر تربة خصبة للكيان الفلسطينى ، وذلك ففى الوقت الذى كان يسعى فيه السوفيت إلى التعايش السلمى مع المعسكر الرأسمالى ، ومن ثم يميلون إلى إطفاء بؤر التوتر مع هذا المعسكر، فى الوقت الذى مثلت فيه ولادة كيان فلسطينى فتيل لإشعال الأزمة مع الولايات المتحدة عبر إسرائيل ومن ثم فتجاهل الاتحاد السوفيتى لولادة منظمة التحرير الفلسطينية يرجع إلى تضايقه من هذه الولادة وان اخفى ضيقه إكراما لعبد الناصر الذى تحمل العبء الأساسى فى إنشاءها ، على الجانب الآخر تحمست الصين الشعبية لظهور المنظمة سياسيا وعسكريا حيث كانت أول دولة أجنبية تعترف بالمنظمة وتفتح لها مكتبا فى العاصمة الصينية بكين .

- زيادة حد الصراع والاستقطاب الدولى بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكى والذى تتزايد مع دخول الولايات المتحدة الحرب ضد فيتنام .

- التنافس والصراع بين الاحتكارات الغربية وتعزيز النمو غير المتكافئ فى شتى فروع الصناعة داخل الدول الغربية ، فإذا كانت الولايات المتحدة قد ساهمت غداة الحرب العالمية الثانية فى إقالة أوربا الغربية من عثرتها الاقتصادية ، إلا أنها سعت فى الوقت ذاته على تثبيت أقدامها فى مستعمرات حليفتها بريطانيا وفرنسا ، وذلك فى الوقت الذى نجحت فيه الدول الغربية واليابان من مضاعفة إنتاجها الصناعى واستعادة بعض أسواقها العالمية الأمر الذى كان من شأنه زيادة حدة التنافس بين تلك الدول وبين الاحتكارات الأمريكية ، وبالتداعى نشب خلاف حول السوق الأوروبية المشتركة ، وعمليات توحيد الأسعار ، الجمارك ، العملة ، فضلا عن الأمن الأوروبى .

- النجاح الكبير الذى حققته حركات التحرر الوطنى فى العالم وحصول دولها على الاستقلال ، فبعد الحرب العالمية الثانية تحرر 1.300 مليون نسمة من الاستعمار .

- تكريس استراتيجية ' حرب الشعب ' طويلة الأمد بعد التأكد من فاعليتها فى كوريا وطوبا وفيتنام ، بما أغرى فصائل المقاومة الفلسطينية بتبنى هذه الاستراتيجية العسكرية .

فى ضوء كل ذلك ، سعت إسرائيل إلى تحويل مجرى نهر الأردن ، وهنا انقسم العالم العربى إلى رأيين ، أحدهما أراد تعليق أمر التصدى لإسرائيل على الفلسطينية دون تحمل ادنى مسئولية .

أما الرأى الثانى ، فقد أراد الإسراع بإقامة كيان فلسطينى تحت سيطرة النظام العربى بما يحقق الرغبة الفلسطينية فى إقامة كيان مستقل لهم ، وفى هذا الإطار طرح عبد الناصر فى صيف 1963 مبادرته التى تقضى بتولى احمد الشقيرى موقع مندوب فلسطين فى جامعة الدول العربية ودعا الرئيس عبد الناصر لعقد مؤتمر القمة العربى الأول 1963 والذى طالب من الشقيرى استعراض آراء مختلف التجمعات الفلسطينية فى الصورة التى ترغب هذه التجمعات فى ظهور الكيان الفلسطينى عليها ، وبعد جهود مضنية تمكن الشقيرى من عقد المؤتمر الوطنى الفلسطينى فى القدس فيما بين 28/5- 2/6/1964 والتى انبثقت عنه 'منظمة التحرير الفلسطينية ' فوجد مؤتمر القمة العربية الثانى 1964 نفسه أمام الأمر الواقع وبدأ الكيان الفلسطينى مسيرته بعد ميلاده الجديد .

منقووول للفائدة .
AlexaLaw