الدستور... وما ادراك ما الدستور ؛ عاشور الشامس

وثيقـة وطنـية سامـية تـنـظم العلاقـة بـين الحـاكم والمـحكوم

عاشور الشامس: هناك جدل حاد في ليبيا هذه الأيام ـ وان كان بأصوات خافته ـ حول الدستور. حيث يشاع أن للدستور "مسودة" جاهزة ـ ولم يعد سرا وجود لجنة خاصة بإعداده يرأسها رئيس المحكمة العليا القاضي بوتوتة ـ وأن السلطات "ستطرحها" على الشعب الليبي بمناسبة الذكري الأربعين لوصول العقيد **** ******* للسلطة. ولكن الأمر الذي يثير الجدل والمراء الحاد هو أسلوب طرح مسودة الدستور هذه على الشعب الليبي.





فهل يقتصر ذلك على المؤتمرات الشعبية والهيكليات التقليدية الليبية* أم يتعداها الي دوائر أكبر تضم مختلف فعاليات الرأي العام الليبي* والشعب الليبي بمختلف تجمعاته وتشكيلاته.



ذلك باعتبار أنه وحتى هذه اللحظة ـ ولأسباب متعددة ومختلفة لا مجال لذكرها هنا ـ لم تستطع المؤتمرات الشعبية ـ بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود ـ استيعاب القوى السياسية المختلفة في البلد.



البعض يرى الدستور خطوة الى الوراء.. وعودة الى "العهد البايد" وتقهقرا الى النظام القديم.. فالدساتير في رأيهم أدوات حكم "بالية".



وهناك من يخلط بين "الدستور" كقانون وضعي من وضع البشر* وبين القانون الطبيعي أو العرف أو الشريعة التي هي أكبر وأرحب. وعليه فإن أداة الحكم ـ أي الدستور ـ هي الملزمة بالخضوع لشريعة المجتمع... وليس العكس.

ويرى هؤلاء ان الدستور فيه تقويض لما بني على مدي أربعين عاما* ويخشون أنه سوف يقضي على ما يرونه إنجازات ديمقراطية مباشرة جاءت بها وثائق متعددة منها "البيان الأول للثورة" و "النظرية العالمية الثالثة" و "إعلان قيام سلطة الشعب" و "الوثيقة الخضراء الكبرى" و "قانون تعزيز الحريات"... وما الى لذلك.

ويقول آخرون أن أولئك يعارضون الدستور يعتبرونه خطرا يهدد مراكزهم في تركيبة السلطة التي افرزها النظام الليبي ـ بتركيبته الفريد بل الغريبة ـ خلال أربعين سنة. فهم يخشون على قوتهم ونفوذهم ومواقعهم التي اكتسبوها في هرم السلطة الليبي.



* * *



ولكن دعونا ـ أولا ـ نستعرض بعض المفاهيم المتعلقة بالدستور* لنرى مدي فائدتها أو ضررها على الدولة والشعب.



الدستور هو دعوة الى تنظيم العلاقة في اطار عام بين مؤسسات الدولة وبين تلك المؤسسات والمواطنين كأفراد وبين أولئك المواطنين بعضهم ببعض. وهو تنظيم لعلاقة الحاكم بالمحكوم بما يكفل لكل حقوقه الانسانية والمدنية والاخلاقية* ويحدد مسؤولياته تجاه الآخر.



فبالاضافة الى حماية الدستور لإنسانية الانسان واعطائه حقوقه الانسانية كاملة* فهو يوفر له مقومات المواطنة والانتماء الى مجتمع متحضر يحترمه ويسعى الى الذوذ عنه والدفاع عن حقوقه دون اللجوء الى استعمال القوة او التحايل على القوانين. واهم ما يكفله الدستور هو حرية الأفراد في التعبير السلمي عن افكارهم ووجهات نظرهم بالوسائل المتاحة للجميع ـ دون اقصاء او تخصيص ـ وعبر المؤسسات القائمة لهذا الغرض* دون خوف أو تهديد* سافر او مقنع. وبذلك يكون الدستور بمثابة "عقد مواطنة" بين الجميع... دولة وأفرادا.



ولكي لا تتغول الدولة ولا يسيء الافراد استعمالها ضد بعضهم البعض كان لزاما كبح جماحها والحد من سلطتها بين الحين والاخر* كي لا تتحول الى دولة شمولية مستأثرة* أو دكتاتورية لعينة* أو طاغوطا يصادر الحريات وينتهك الحقوق الانسانية والوطنية* أو معول شر يستأثر به الأقلية وتستخدمه ضد الأغلبية. وهنا تضيع قيمة المواطن الفرد وتختلط المعايير ويفقد الناس الثقة والتوازن بينهم وبين الدولة... وهذه هي بداية المشاكل.

ويالها من مقولة تلك التي تقول: "القرآن شريعة المجتمع"...



انها تعني ان القرآن هو القانون الطبيعي أو العام الذي يحكم تصرفات ومعاملات هذا المجتمع وافراده. فهي اكثر من كون القرآن "مصدرا" من مصادر الشريعة. إن ******* في جوهره ليس الا أمرا بمعروف ونهيا عن منكر* وإباحة للطيبات ونهيا عن الخبائث ووضع للأغلال التي تحاول التحكم في الناس من أهواء وشهوات ومطامع وغرور وغرائز السيطرة والانتقام والاستهانة بأرواح الآخرين وحقوقهم. وهو الفيصل في معرفة الحق والباطل* والخطأ والصواب* وحقوق الأفراد وواجباتهم.



وهنا نفهم مقولة: "القرآن شريعة المجمتع" على حقيقتها. بأنها ـ في حقيقة الأمر ـ انطلاق في آفاق رحبة. من محبة بين الناس* وتكافل اجتماعي واقتصادي* وحرص على الأسرة (العائلة) كلبنة أساسية في المجتمع* وتقدم إجتماعي وإقتصادي وسياسي وعلمي* وكإبداع فني وروحي لا حدود له.



كثير من دساتير الدول *******ية عُدلت لتتضمن نصا أو نصوصا تفيد بأن الشريعة *******ية ومبادئها العامة هي المصدر الرئيسي للتشريع. وقد فهم هذا خطا في كثير من الاحوال* ودس المرجفون كثيرا مما دسوا فأشعوا أن ******* غول جاء لينتقم من الناس ويحرمهم من الاستمتاع بالحياة والارتفاع بها.



* * *



ولكلمة "دستور" مدلولات لغوية وتاريخية وموضوعية وقانونية فقهية. وهناك دساتير مكتوبة وأخرى عرفية لا تضمها وثائق مكتوبة وانما تعتمد على تراكم كثير من التجارب... ولعل اشهر دستور عرفي هو الدستور الانجليزي (البريطاني). ولكن غالبية دساتير الدول الحديثة مدونة.



أن السيادة في النظم الديمقراطية الحديثة شراكة بين الحكام والشعوب. فالمواطن اليوم أصبح أكثر وعيا وفهما لما يدور حوله نتيجة لثورة المعلومات بفضل التكنولوجيا التي حطمت كل الموانع والفواصل بين الحاكم والمحكوم حتي اصبح لناس يتحدثون عن الحكومة "الافتراضية". فما بات سهلا اليوم حجر المعلومات أو احتكارها أو التحكم في انتشارها. وأصبحت الشفافية أساسا من أسس الحكم الرشيد ومدعاة لانتشار العدل والطمأنينة والانصاف بين الناس. فكل شيء فوق الطاولة... كما يقولون!!



أما فيما يتعلق بعرض مسودة الدستور الليبي على الرأي العام أم لا* فبدون شك لكي يكتسب الدستور الصفة الشرعية والرسمية لا بد من دليل على وجود إجماع عام عليه من قبل الشعب أو ممثليه أو القوى السياسية الفاعلة في المجتمع.



والديمقراطية الحقيقة هي في عرض الدستور على الشعب ككل في استفتاء عام حر* لأن ذلك إعتراف للشعب بأنه صاحب السيادة ومصدر السلطات. ومن دواعي الثقة الجماهيرية في الدستور أن يتحصل علي أكبر قدر ممكن من النقاش والشرح والتأييد والاجماع وأن يعرف الناس أنه مقبول لديهم جميعا أو لدى غالبيتهم العظمي... فيستأنسون اليه ويحترمونه ويسبغون عليه الشرعية والأهمية التي يستحقها كأهم "ميثاق وطني" ديمقراطي* وكمعيار أساسي لحماية حقوقهم وحرياتهم بجميع أنواعها.



أخبار ليبيا ـ 15 أغسطس 2009